إنكار الجرائم- إعادة قتل الضحايا وتواطؤ الإعلام في تزييف الحقيقة.

المؤلف: حنان البلخي09.02.2025
إنكار الجرائم- إعادة قتل الضحايا وتواطؤ الإعلام في تزييف الحقيقة.

إنكار الجريمة: إعادة قتل الضحية

تخيلوا معي تلك الأمّ المكلومة التي أمضت زهرة شبابها، ثلاثة عشر عامًا كاملة، في انتظار بصيص أمل أو نبأ يقين عن مصير فلذة كبدها، الذي اختفى قسرًا في غياهب السجون. كانت تتشبث بخيط رفيع من الأمل، تتمنى أن يكون حيًا يُرزق. وبعد طول انتظار، حين فُتحت المعتقلات إثر سقوط النظام، ولم تجد له أثرًا، بدأت رحلة البحث المضنية عن رفاته في مقبرة جماعية اكتُشفت بالقرب من أحد السجون الرهيبة. وبينما تحاول جاهدة استيعاب فاجعة الفقد، يطل عليها أحدهم عبر شاشة التلفاز، ليخبرها ببرود أن تلك الجرائم لم تحدث أبدًا، وأن النظام كان حامي الحمى ومُرسّخ الاستقرار، وأن كل ما يُتداول ما هو إلا محض أكاذيب ومبالغات سياسية مغرضة. ترى، ما هو الشعور الذي سينتاب هذه الأمّ الثكلى؟

في تلك اللحظة العصيبة، يُنتزع منها عنوة آخر ما تبقى لها من حقوق إنسانية، ألا وهو اعتراف العالم أجمع بفداحة مظلمتها ومرارة فقدها. تشعر بأن معاناتها موضع شك وتساؤل، وبأن المطلوب منها هو الصمت المطبق، لأنها مجرد جزء هامشي من رواية مُضخّمة لا أساس لها من الصحة. هنا، يتحول الإنكار البغيض إلى امتداد سافر للجريمة الأصلية نفسها. فإذا كان النظام المجرم قد قتل ابنها بوحشية وأخفى جثته، فإن المنكرين لهذه الجرائم يمعنون في قتل ذكراه الطاهرة، ويسعون بكل قواهم لدفن الحقيقة المرة معه إلى الأبد.

إنكار الجرائم جريمة في حد ذاته

في كل إطلالة إعلامية، تتمادى بعض الشخصيات العامة في أسلوبها المستفز والمثير للاشمئزاز، غير مكترثة بمشاعر الضحايا المكلومين وذويهم المفجوعين. هؤلاء الأشخاص لا يترددون قيد أنملة في إنكار الجرائم الموثقة بالصوت والصورة، ولا يرون في صور التعذيب والتصفيات الجسدية التي كانت تمارس في سجون النظام البائد سوى مبالغات وافتراءات، على الرغم من أن العالم بأسره قد شهدها ورآها بأم عينه.

فكيف يمكن لشخص يتجاهل الحقائق الدامغة ويتنكر لها أن يكون شاهدًا موثوقًا على الحق؟ هذا الإنكار العلني الفاضح ليس مجرد طعنة غادرة في جراح الضحايا النازفة، بل هو محاولة بائسة لتحويل الجلاد إلى ضحية، وإعادة إنتاج وترويج الدعاية الكاذبة التي لطالما استخدمها النظام القمعي لتبرير جرائمه.

إن إنكار المجازر المروعة التي ارتُكبت في سجن صيدنايا سيئ السمعة، والتستر على عمليات الاغتصاب الوحشية التي كانت تحدث في السجون السرية، والتشكيك السافر في وجود آلاف المعتقلين المغيبين الذين لا تزال أمهاتهم الثكالى يقفن أمام أبواب السجون الموصدة، بانتظار بصيص أمل كاذب، لا يمكن أن يكون مجرد وجهة نظر قابلة للنقاش، بل هو امتداد بشع للجريمة ذاتها، وهو ما يستوجب التحرك الفوري لوقف هذه المهزلة وإخضاع المتورطين فيها للمحاسبة والمساءلة القانونية العادلة.

الممثلة السورية سلاف فواخرجي، على سبيل المثال لا الحصر، التي تطل علينا عبر وسائل الإعلام المختلفة لتدافع ببسالة عن روايات النظام السابق الكاذبة والمضللة، هي مثال صارخ للشخصيات التي تحاول جاهدة تلميع صورة هذا النظام الوحشي، على الرغم من أن الحقائق الدامغة والإثباتات القاطعة تدين هذا النظام وتثبت ارتكابه لجرائم يندى لها الجبين.

تظهر فواخرجي على شاشة التلفاز بملامحها المتناسقة الرقيقة وابتسامتها المصطنعة الباهتة، ويراها البعض رمزًا للجمال والأناقة والجاذبية، ولكن خلف هذا الوجه الذي يبدو وديعًا وبريئًا، تختبئ أيديولوجيا ملوثة سامة تبرر واحدة من أبشع الجرائم التي عرفها العصر الحديث.

هذا التناقض الصارخ والبين بين شكلها الخارجي المادي وبين خطابها المستفزّ والمغيظ ليس مجرد مفارقة شخصية عابرة، بل هو انعكاس واضح لكيفية توظيف بعض الشخصيات العامة للإنكار والتضليل والخداع، وكأن الكاميرات البراقة والمكياج المُتقن يمكن أن يحجبا حقيقة المجازر المروعة والمقابر الجماعية التي لا تزال تُكتشف حتى يومنا هذا.

وكم من شخصيات بارزة في التاريخ تمتعت بمظهر جذاب أخاذ ولكنها كانت تحمل في داخلها فكرًا دمويًا متطرفًا، تستخدم مظهرها الخارجي لتضفي على خطابها طابعًا مقبولًا ومستساغًا، ولكن مهما كانت الملامح جذابة وجميلة، فإنها لا تستطيع بأي حال من الأحوال تغطية بشاعة الفكر الذي تدافع عنه ببسالة. لم يكن الجمال يومًا معيارًا للأخلاق الحميدة، ولم يكن الوجه الحسن حجة دامغة تبرر تبرئة نظام قتل الملايين من الأبرياء بدم بارد.

فالحقيقة الساطعة لا تتغير قيد أنملة مهما حاول أصحاب المظاهر المصطنعة تجميلها بالكلمات المعسولة المزيفة، ومهما استخدموا الكاميرات والشاشات لفرض واقع مشوه لا وجود له إلا في مخيلتهم المريضة.

قد تحاول شخصيات مثل سلاف فواخرجي أن تخدع بعض السطحيين بمظهرها الخارجي الجذاب، ولكنها لن تخدع أبدًا الأمهات الثكالى اللواتي فقدن أبناءهن في غياهب السجون، ولن تخدع الناجين من جحيم سجون الموت الرهيبة، ولن تخدع أبدًا كل من شاهد المقابر الجماعية تكتشف يومًا بعد يوم. فالتاريخ لا يرحم أحدًا، والحقيقة المرة لا تُطمس بمكياج الكاميرات البراقة، ولا بمقابلات الاستفزاز والإنكار.

التواطؤ الإعلامي بقصد أو بغير قصد

هذا الظهور الإعلامي البائس لا يمكن أن يكون مجرد لقاء عابر مع ممثلة سورية، بل هو مشهد جديد يضاف إلى مسلسل طويل من تبرير الجرائم البشعة وإنكار الحقيقة الساطعة.

هي ليست وحدها في هذا الدور القذر، فوسائل الإعلام المختلفة التي تستضيف مثل هذه الشخصيات المنكرة لجراح السوريين وتمنحها مساحة واسعة للحديث عن مظلومية النظام السابق، في الوقت الذي لا تزال فيه المقابر الجماعية تكتشف تباعًا، تتحمل جزءًا كبيرًا من المسؤولية الأخلاقية والقانونية. إذ لا تكتفي هذه المنصات بإيذاء الضحايا نفسيًا ومعنويًا، بل تساهم بشكل فعال في تطبيع الإنكار، وكأن دماء الشهداء الطاهرة ليست إلا رواية قابلة للنقاش والجدال العقيم.

من هنا، فإن استضافة شخصيات تدافع ببسالة عن الجريمة النكراء دون مساءلتها أو محاسبتها، هو شكل من أشكال التواطؤ الفاضح. فالإعلام الذي يحترم الحقيقة المقدسة لا يمكنه بأي حال من الأحوال أن يسمح بتمرير الأكاذيب والافتراءات على أنها روايات متساوية مع الحقائق الموثقة بالأدلة القاطعة. لذلك، لا بد للإعلام أن يتحمل مسؤوليته كاملة في مواجهة الإنكار البغيض، لا في الترويج له والدفاع عنه.

ولكن على الرغم من الدور السلبي الذي تلعبه بعض وسائل الإعلام في مثل هذه الحالات المؤسفة، فإن استخدام شخصيات عامة في لقاء متلفز للدفاع عن الجريمة وتبريرها، يكشف في كثير من الأحيان عن قبح تلك الشخصيات الداخلي الدفين أمام الجمهور العريض.

فكلما تحدثت تلك الشخصيات، ازداد وضوح التناقض الصارخ بين المظهر المصطنع البراق والكلمات المليئة بالكراهية والتبرير الأعمى. وهذا النوع من الظهور الإعلامي، وإن كان مؤلمًا وقاسيًا، فإنه يفضح هؤلاء الأشخاص أمام الرأي العام، ويجعلهم مجرد أدوات مكشوفة لخدمة الاستبداد والظلم.

كيف يمكن إنكار ما هو موثّق؟!

الجرائم الشنيعة التي ارتكبها النظام السابق المجرم لم تكن مجرد خيالات أو ادعاءات سياسية عارية عن الصحة، بل هي وقائع مثبتة بشهادات الناجين من المعتقلات الرهيبة، وبالصور المسربة التي هزت العالم أجمع، وبالتقارير الحقوقية الموثقة، وحتى بالوثائق السرية التي كشفتها المؤسسات الدولية المرموقة. آلة فرم المعتقلين بوحشية في سجن صيدنايا سيئ السمعة، والاغتصابات الوحشية التي وُلد بسببها أطفال أبرياء لا يعرفون من هو والدهم، فضلًا عن الجثث المتكدسة في المقابر الجماعية، كلها أدلة دامغة وقاطعة على أن هذا النظام لم يكن مجرد سلطة قمعيّة مستبدة، بل كان ماكينة قتل جماعي تعمل بلا رحمة ولا هوادة وبلا محاسبة أو رادع.

كيف يمكن لإنسان يملك قلبًا نابضًا وعقلًا يفكر أن يتجاهل كل هذه الأدلة القاطعة والبراهين الدامغة؟ كيف يُمكن لشخص رأى بأم عينه جثثًا مكدّسة في مقابر جماعية أن يدّعي بوقاحة أن كل هذا لم يحدث أبدًا؟ إنه عمى اختياري مقيت، بل ولاء أعمى متجذر للاستبداد يمنع صاحبه من رؤية الحقيقة الساطعة، حتى بعد سقوط النظام العميل.

من هنا، نجد أن بعض الشخصيات المرتبطة بالنظام السابق تمثل جزءًا لا يتجزأ من شبكة واسعة ممن يدينون له بالولاء المطلق، ويسعون بكل ما أوتوا من قوة إلى التشكيك في المأساة السورية وتطبيع الإنكار. هؤلاء الأفراد يستغلون وسائل الإعلام المختلفة كمنصات لنشر الأكاذيب وتبرير الجرائم أو التقليل من حجم المعاناة الإنسانية، وكأنهم يراهنون على أن التاريخ سينسى ولن يحاسبهم على أفعالهم الشنيعة.

من هنا تأتي ضرورة محاسبة كل من يحاول تبرير الفظائع التي ارتكبها النظام المجرم باسم التعبير عن الرأي بحرية. لا سيما أن الإعلان الدستوري يضع حدًا لمثل هذه الممارسات المشينة ويجرم إنكار جرائم النظام، تمامًا كما هو الحال مع إنكار جرائم النازية أو المجازر الجماعية التي ارتُكبت في مختلف أنحاء العالم. وهذا التشريع ليس مجرد إجراء قانوني روتيني، بل هو اعتراف صريح بأن إنكار الجرائم هو في حد ذاته جريمة جديدة، لأنه يعيد إنتاج الظلم ويرسخ جذوره العميقة ويهيئ الأرضية الخصبة لعودة العنف تحت أي ذريعة مستقبلية.

أخيرًا، لا بد من الإشارة والتأكيد على أن الضحايا المكلومين لا يطلبون الشفقة والرأفة، بل يطالبون بالحقيقة والعدالة الناجزة. إنهم يريدون أن ترفع الأقنعة المزيفة عن الوجوه الملوثة بدماء الأبرياء.

لن تتحقق العدالة المنشودة أبدًا إلا عندما يُجبر الجميع على مواجهة حقيقة ما حدث، ولا مكان للإنكار في عالم يتطلع إلى تحقيق العدالة. والعدالة لا تتحقق حين يسمح للمجرمين السابقين وأنصارهم المتواطئين بطمس الحقائق وتزييف التاريخ، بل تتحقق حين يجبر المجتمع بأكمله على مواجهة ماضيه بشجاعة وجرأة، دون مجاملات أو مواربة أو تستر.

من حق كل أمّ ثكلى أن تعرف مصير ابنها المغيب، ومن حق كل ناجٍ من التعذيب الوحشي أن يسمع صوته المدوي، ومن حق كل طفل وُلد في السجن المظلم بسبب اغتصاب والدته البريئة أن يعرف الحقيقة كاملة غير منقوصة، وألا يُقال له إن ما حدث لم يكن سوى حرب ضروس على الإرهاب.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة